الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

والدي يتجاهلني رغم اجتهادي في بره، فماذا أفعل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا أكره والدي وأبكي في الصلاة، وأدعو الله أن يهديه، فهل هذا حرام؟

لدي ذكريات سيئة مع والدي، فقد كان يضربني في صغري، ويقارنني بإخوتي، واستمر في ضربي حتى وأنا بالغة بسبب سوء ظن منه قبل عامين، كما أنه يتجاهلني منذ ثلاث سنوات؛ لأنني اخترت أن أصبح أستاذة بدلاً من طبيبة، على الرغم من أننا نعيش في نفس البيت ونراه يوميًا، إلا أنه لم يكلمني منذ ثلاث سنوات، حتى في الأعياد والمناسبات.

حاولت قبل أيام أن أكلمه وأعددت له الفطور، ولكن ذلك لم ينفع، فقد كلمني في تلك اللحظة، ثم عاد ليتجاهلني، رغم أنه يعامل إخوتي بشكل عادي جدًا، فهل كرهي له حرام؟ كما أنني أشعر بأنني لا أرغب في مسامحته أو الدعاء له بالهداية.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ نور اليقين حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فأهلاً بك -أختنا الكريمة- في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله أن يوفقك لكل خير، وأن يقدر لكل الخير حيث كان، وأن يرضيك به، ونحن سعداء بتواصلك معنا.

وبخصوص ما سألت عنه، فنحب أن نجيبك من خلال ما يلي:

أولًا: أنت لا تكرهين الوالد كما توهمت، وإنما هناك أحداث وقعت في صغرك استثمرها الشيطان، وأخذ في تضخيمها في نفسك من أجل أن يوقعك في العقوق، أو على الأقل القطيعة بينك وبين والدك، وهذه النقطة يجب ألا تغيب عنك.

ثانيًا: هناك أمر فطري لا يختلف عليه اثنان، وهو أصدق من رؤيتك للشمس الساطعة في الظهيرة، وهو أن حب الآباء حب فطري لا يملك الوالد صرفه، كما لا يستطيع دفعه، فهو مجبول على محبتك، لذا أوصى القرآن الولد بأبيه، ولم يوص الوالد بولده؛ لأن الله عز وجل قد عوض ذلك بتلك الفطرة.

ثالثًا: الدعاء للوالد بالهداية ليس عقوقًا، بل يجب علينا الجميع الدعاء لأهلينا بالهداية، وأمواتنا بالرحمة.

رابعًا: ما مضى لا يلغي وقوع بعض الآباء أحيانًا في أخطاء تربوية، لكنه الفارق بين خطأ الوالد وخطأ غيره، أن أخطاء الوالد لا تكون أبدًا عن تعمد، بل قد تكون لفرط محبة، أو خوف على الولد، أو عادات بيئية نشأ عليها.

خامسًا: ليس كل ما يعتقده الولد أنه خطأ بالضرورة يكون كذلك؛ فالبعض قد ينقم على أبيه أمورًا، ثم حين يكبر يكتشف أن ما فعله أبوه كان عين الصواب وهو لا يدري.

سادسًا: الإنسان بطبيعته يرى أخطاء الآخرين ولا يرى أخطاءه، مع أن أخطاءه قد تكون واضحة وكبيرة، لكنه لا يراها، وقد تكون أخطاء من أمامه يسيرة فيراها، وهذا يحدث مع الجميع، وهو كذلك مع الوالدين. فقد نضخم رد فعل الوالد على أمر ما، دون أن نتهم أنفسنا لماذا وقع الخطأ منا أصلاً، وهذا جزء من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينيه"."

سابعًا: البر بالآباء ليس معاوضةً؛ بمعنى أن نحسن إلى الآباء متى ما أحسنوا إلينا، وأن نكرههم متى ما قسوا علينا! هذا خلل كبير، البر بالآباء واجب وإن أساؤوا، بل إن الله أمر ببرهم، وشدد على إكرامهم حتى لو كانوا كفارًا، بل لو حرضوك على الكفر بالله وجب عليك مصاحبتهم بالمعروف، قال الله عز وجل: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً}.

وعليه فيجب عليك -أختنا- ما يلي:

- الاستعاذة بالله من هذا الشيطان الذي يصرفك عن الخير، والابتعاد عن تذكر أخطاء الوالدين.

- التوبة والاستغفار من قولك: (أكره والدي)، فإنها قوية وثقيلة في الميزان يوم العرض على الله عز وجل، وكذلك من قولك: (عدم مسامحته)، إذ كيف تقول فتاة مؤمنة ذلك عن والدها مهما كان مخطئًا؟

- تذكري أن رضا الوالد من رضا الله عز وجل، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: " رِضى اللَّهِ في رِضى الوالِدَينِ، وسَخَطُ اللَّهِ في سَخَطِ الوالدينِ".

- ننصحك أن لا تتذكري ما كان من أمور سلبية في صغرك، واستحضري كل لحظة مرت عليك معه في سعادة، وضخمي هذا في نفسك، حتى تحاصري الشيطان المتربص بك.

أختنا الكريمة: اعلمي أن الواجب عليك أن تتحملي أخطاء الوالد، وأن تتجاهلي زلاته، فهو أبوك، نعم أبوك الذي يحبك أكثر من أي أحد في العالم كله، اعلمي هذا جيدًا، بل لن تجدي أحدًا في الدينا كلها تعادل محبته لك محبة والدك، ولذا لا يمكن أن يجازي الولد والده، فعن أَبي هريرة -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا، فَيَشْتَرِيهُ فَيُعْتِقَهُ".

ولعلك تذكرين حديث رسول الله: "أنت ومالك لأبيك"، ولهذا الحديث قصَّةٌ مُؤثِّرة وردَتْ في رواية الطبراني، والبيهقي، نذكرك بها:
فعن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابرٍ -رضِي الله عنه- قال: جاء رجلٌ إلى النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: يا رسول الله، إنَّ أبي أخَذَ مالي، فقال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- للرجل: "اذهَبْ فأتِني بأبيك"، فنزل جبريل -عليه السلام- على النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُقرِئك السلام ويقول لك: إذا جاءَك الشيخ فسَلْه عن شيءٍ قالَه في نفسه ما سمعَتْه أذناه، فلمَّا جاء الشيخ قال له النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما بال ابنك يَشكوك، أتريد أخْذ ماله؟ قال: سَلْهُ يا رسول الله، هل أُنفِقه إلا على إحدى عمَّاته أو خالاته أو على نفسي! فقال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إيهٍ! دَعْنا من هذا، أخبِرنا عن شيءٍ قُلتَه في نفسك ما سمعَتْه أذناك"، فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يَزال الله يزيدنا بك يقينًا! لقد قلتُ في نفسي شيئًا ما سمعَتْه أذناي فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "قُلْ وأنا أسمع"، قال: قلت:

غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا تُعَلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ
إِذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ لِسُقْمِكَ إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ
كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي طُرِقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنَايَ تَهْمُلُ
تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلُ
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي إِلَيْهَا مَدَى مَا فِيكَ كُنْتُ أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ
فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ

قال: فحينئذٍ أخذ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بتلابيب ابنه وقال: "أنت ومالُك لأبيك".

فانتبهي -أختنا- لوساوس الشيطان، واحرصى على الذهاب لأبيك، والتودد له، والاهتمام به، فهو يا -أختنا- فاكهة ماضية -متعك الله بحياته-، وبرحيله -بارك الله في عمره- ستجدين زلزالًا حدث في عقلك، وقلبك، وحياتك، وسلي كل فتاة فقدت والدها تنبيك عن ذلك.

نسأل الله أن يرزقك بره، وأن يصرف عنك العقوق، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً