الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الغفلة.. والاغترار بالدنيا

الغفلة.. والاغترار بالدنيا

الغفلة.. والاغترار بالدنيا

لم يخلق الله تبارك وتعالى الكون عبثا، ولن يترك الناس سدى، بل خلق الكون لحكمة، وخلق الإنسان لمهمة، ومهمة الإنسان في هذه الحياة إنما هي عبادة الله جل في علاه، وعمارة الكون على حسب قانون الله.

وقد أمر الله عباده أن يتزودوا من هذه الدار زادا للآخرة يبلغ بهم الجنة، وأعطانا سبحانه مهلة نتزود فيها، وهي عمر الإنسان، وهي ـ كما يعلم كل أحد ـ أيام معدودة، وأنفاس محسوبة، وآجال مضروبة، لا يزاد فيها ولا ينقص منها، {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا}[المؤمنون]، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].. {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}[المنافقون:11].
وإنما صاحب الدنيا كمثل راكب القطار ينقله من مكان إلى مكان، فمحطته الأولى مولده ومحطته الأخيرة موعده، فهو ينطلق من مولده إلى موعده، وهو في كل يوم يبتعد عن الأول ويقترب من الثاني. كما قيل: "إنما أنت أيام فإذا مضى يوم مضى بعضك".

وقد حذرنا الله سبحانه من الدنيا أن نفتتن بزينتها، أو ننشغل بزخرفها وزهرتها، وبين لنا أنها {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد:20]، وإنما مثلها {كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}[الكهف:45]، أو {كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}[يونس24]، وأن الحقيقة الكبرى هي ما قاله مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}[غافر:39].

والنبي صلوات الله وسلامه عليه أيضا حذرنا أن نتعامل معها على أنها محل إقامة أو دار مقامة، بل وجهنا أن ننظر إليها على أنها قنطرة تُعبَر ولا تُعمَر، وكما يروى عن عيسى عليه السلام: "الدنيا قنطرة، اعبروها ولا تعمروها"..

من ذا الذي يبني على موج البحر دارا تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا


قال عُمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته: "إنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرارِ، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظَّعَن (يعني الرحيل)، فكم من عامرٍ عما قليلٍ يَخْرَبُ، وكم من مقيمٍ مُغتَبطٍ عما قليل يَظعَنُ، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرِّحلة بأحسن ما بحضرتكم مِن النقلة، وتزوَّدوا فإنَّ خيرَ الزَّاد التقوى".

مر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه على جدي ميت صغير الأذن( فأخَذَ بأُذُنِهِ، ثُمَّ قالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أنَّ هذا له بدِرْهَمٍ؟ فَقالوا: ما نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بشَيءٍ، وَما نَصْنَعُ بهِ؟! قالَ: أَتُحِبُّونَ أنَّهُ لَكُمْ؟ قالوا: وَاللَّهِ لو كانَ حَيًّا كانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأنَّهُ أَسَكُّ، فَكيفَ وَهو مَيِّتٌ؟! فَقالَ: فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ علَى اللهِ مِن هذا علَيْكُم).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ)[صحيح الترغيب].
تحذير من الغفلة
إننا لا نقول ذلك حتى يترك الناس الدنيا أو يتركوا الأعمال والأموال، وإنما نقوله تذكيرا لهم ولأنفسنا ألا نغتر بهذه الحياة وألا ننشغل بها عن الدار الآخرة.. فإن الغفلة والاغترار هما المرض والداء، وإن اليقظة والاعتبار هما العلاج والدواء. وإن الإنسان ليغفل وتمتد غفلته أحيانا سنوات طويلة، فإذا أفاق وجد أنه قد ضيع نفسه وعمره، وأولاده وزوجه، وضيع دينه، وربما أيضا ضيع دنياه.
فكن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا، فإن لكل منهما بنون، كما قال علي رضي الله عنه: "إن الدنيا قد ولت مدبرة، وإن الآخرة قد ولت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل".

والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن المرض وكشف لنا الداء في قوله: (وَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ)[رواه البخاري].. ووصف لنا الشفاء والدواء فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
أي كن فيها كالمسافر الذي لا يشغله عن وجهته شيء، ولا يضيع وقته فيما يعوقه عن مقصده، وإنما يأخذ ما يتبلغ به في سفره حتى يبلغ داره وموطنه الذي يريد.

إن لله عبــادا فطنـــا طــــلقوا الدنيـــا وخافو الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنــا
جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا

فاتخذ لك من صالح الأعمال سفينة تنجو بها من لجج بحار فتن هذه الحياة، وترسوا بك في نهاية أمرك في ميناء الجنة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

قضايا شبابية

الغفلة.. والاغترار بالدنيا

لم يخلق الله تبارك وتعالى الكون عبثا، ولن يترك الناس سدى، بل خلق الكون لحكمة، وخلق الإنسان لمهمة، ومهمة الإنسان...المزيد