الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أخاف من فقد أمي وأقاربي لدرجة أني كرهت حياتي، فما الحل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بدايةً – أخي الكريم –: جزاك الله خيرًا، وفرّج الله همّك كما فرّجت عن إخواننا الذين يراسلونك؛ فقد اطّلعت على أغلب المواضيع؛ لأجد تفسيرًا لحالتي، لكنني – للأسف – لم أصل إلى نتيجة، ووجدتك قد رددتَ عليهم بردود شافية، أسأل الله أن يثيبك ويبارك فيك.

دكتورنا الفاضل، أنا فتاة أبلغ من العمر 24 سنة، أصغر إخوتي، وخريجة جامعية –ولله الحمد–، أعاني منذ صغري من تعلقي الشديد بأمي؛ فأنام معها، وأذهب معها إلى كل مكان، ونادرًا ما أنفصل عنها، وإذا خرجت وحدها أشعر بالضيق والقلق، خوفًا من أن يصيبها مكروه.

نشأتُ وأنا أعاني من هذه المشكلة، وقد يكون لليُتم دور في ذلك؛ إذ فقدتُ والدي – رحمه الله – وأنا في السادسة من عمري، ومنذ شهرين أو ثلاثة، بدأت أعاني من خوف شديد من فقدان أمي، أفكر كثيرًا: ماذا لو توفيت؟ كيف سيكون حالنا؟ كيف سيكون شكل البيت بدونها؟ أتصورها في القبر، وتضيق الدنيا في عيني.

هذه الأفكار سبّبت لي اكتئابًا، وصرت قليلة الكلام، شديدة الحساسية، لا أرغب في تركها وحدها، حتى إنني الآن في سن الزواج، وأحيانًا أقول: لن أتزوج حتى لا أبتعد عنها، ثم أعود وأقول: لا بد أن أتزوج حتى أخفف من تعلقي بها، ثم أرفض الفكرة مجددًا...وهكذا أدور في حلقة من التردد.

والله إني لأبكي بكاءً شديدًا، وأقف أمام باب غرفتها وهي نائمة لأتأكد هل لا تزال تتنفس، لقد تعبت كثيرًا، وتطوّرت حالتي حتى صرت أقلق على إخوتي وأخواتي وأبنائهم أيضًا، وأتساءل من سيرحل منهم أولًا؟ أنظر إليهم وكأن أحدهم سيرحل قريبًا، حتى في اجتماعاتنا العائلية، أفكر: هل سيكون الجميع موجودًا في الاجتماع القادم؟ أصبح الموت هاجسًا يلازمني، لا أريد أن أسمع عن موت أحد، ولا أتابع القصص أو الدراما الحزينة.

كما أني أتألم عندما تشتكي أمي من كبر سنها، ولا أحب أن أسمعها تقول إنها كبيرة؛ فهذا يسبب لي ألمًا كبيرًا، كذلك الذكريات ترهقني، لا أطيق أن يسترجع أحد ماضيه أمامي، فأنا أتألم لألمهم.

رغم محاولاتي إقناع نفسي بأن أعيش يومي، وألا أحمل همّ الغد، وأذكّر نفسي بأن الموت حق لا مفر منه، إلا أنني أفشل في تطبيق ذلك.

كرهت الحياة، وأتضايق إذا رأيت شخصًا صامتًا أو حزينًا، وفكّرت أحيانًا أنه إن كتب الله لي الزواج، فلن أنجب؛ كي لا أقلق على أطفالي.

ضعفت شهيتي، وتكرر لديّ ألم البطن والمغص، وأصبحت كثيرة البكاء، دائمة التفكير، قليلة النوم، فقدت الاستمتاع بكثير من الأمور التي كنت أحبها، حتى إن من يراني يقول: إنني مريضة أو شاحبة.

لا أريد أن أترك أمي وحدها أبدًا، أصبحت مطيعةً جدًا، ويؤنبني ضميري على كل تقصير سابق في حقها.

أحيانًا أتمنى أن يعيش جميع إخوتي وأخواتي في بيت واحد؛ حتى لا تشعر أمي بالوحدة، بل فكّرت أن تطلق إحدى أخواتي لتعود وتعيش معنا، أعلم أن هذا تفكير خاطئ، لكنه من شدّة خوفي، والخوف على أمي يفوق خوفي على أي أحد -حتى إخوتي وأخواتي وأبنائهم-.

يا دكتور، لا أريد أن أستسلم لهذه الأفكار، أعلم أنها من وساوس الشيطان، وأدفعها بذكر الله، وتحصين نفسي بالأذكار، وقراءة القرآن، والمحافظة على الصلاة، والتوبة، ومع ذلك لا تزال الأفكار تلازمني، بل أصبحت تتراءى أمام عيني رغم كل جهودي.

أعلم أن أمي كبرت في السن، والموت حق، لكنني لا أستطيع أن أتقبل ذلك.

سؤالي: بمَ تنصحني؟ هل أذهب إلى طبيب نفسي؟ أخشى أن يصف لي دواءً فلا أستفيد، أو أستفيد فلا أستطيع الاستغناء عنه، وإن توقفت عنه تعود حالتي كما كانت، لذلك أرغب في أن أعالج نفسي بنفسي دون الاعتماد على علاج دوائي.

هناك نقطة مهمة أرجو التفضل بالإجابة عنها: كيف يمكن لدواء محسوس أن يعالج شيئًا نفسيًا غير محسوس؟

أنا فقط أريد أن أعود كما كنت: إنسانة مبتهجة، سعيدة، أعيش يومي، ولا أحمل همّ الغد.

أشكركم على سعة صدركم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ ترف حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أنت تعيشين حالةً وجدانيةً بدأت بما يمكن أن نسميه بقلق الفراق، والشيء الذي أريد أن أوضحه لك، ومنذ البداية هو: أن تعلقك بوالدتك كان يُقابله تعلق والدتك بك؛ فهنالك تبادل وجداني واضح جدًّا، لذا حدث هذا التمكين والالتصاق الوجداني الشديد.

لا شك أن وفاة والدك -عليه رحمة الله تعالى– دفعت أمك دفعًا قويًّا لأن تقوم بنوع من الرعاية التعويضية لفقدان والدك، وهذا جعل والدتك أكثر حمايةً لك، والتصاقًا بك، وأنت انتهجت نفس المنهج.

إذن الذي يحدث لك الآن من تواصل وجداني غير مريح لست أنت الطرف الوحيد فيه، والدتك أيضًا طرف أكيد وأصيل فيه.

هذه الحالات -أيتها الفاضلة الكريمة– تعالج من خلال إبداء المشاعر، والتحدث عنها، وليس كتمانها، تحدثي مع والدتك عن مشاعرك، قولي لها: إني أخاف عليك خوفًا شديدًا، وأعرف مدى حبك لي، وقد نُصحت من جانب الطبيب أن أتحدث حول هذا الأمر؛ لأن مجرد التفريغ النفسي، والحديث في هذا الموضوع سيكون له آثار علاجية إيجابية كبيرة جدًّا عليك وعلى والدتك.

إذن: الحديث، النقاش، الحوار، الفضفضة، التفريغ النفسي مهم جدًّا لخلخلة هذه المشاعر.

مشاعرك ليست كلها سيئة، على العكس فيها جوانب إيجابية جدًّا؛ فالتعلق الوجداني لا شك أنه دليل على الرحمة، لكن يجب أن تتفهمي أن هذا التعلق لا يخلو من مظاهر مرضية.

فرغي عن نفسك من خلال الحديث؛ فالحديث هو الوسيلة التي توصل المشاعر الإيجابية، وتزيل المشاعر السلبية، وخاصةً في موضوع العلاقات الإنسانية.

أمر آخر مهم جدًّا، هو: أن تستبدلي آراءك السلبية حول المستقبل بآراء إيجابية؛ بأن تفكّري في الزواج، فكّري في أن تكوني أمًّا، وأن تسعدي نفسك، وأن تسعدي زوجك، أن يكون لك وجود حقيقي في العناية بإخوتك، وقطعًا أنت بارة بوالديك، أكثري الدعاء لوالدك، وأكثري من الدعاء لوالدتك، ولا بد أن تكون هنالك صورة ذهنية إيجابية مرسومة أمامك، وأن تتخذي الخطوات الصحيحة للوصول لهذه الأهداف.

أنت الآن حاصرت نفسك في هذه البوتقة الوجدانية التي جمعتك بوالدتك وجدانيًا لدرجة الانصهار والتوحّد، وقطعًا هذا -كما ذكرت لك– يجب أن يُكسر من خلال المزيد من الحديث حول هذا الموضوع، وأن تخضعي الموضوع للمنطق، مثلاً: تفقدك لوالدتك حين تكون نائمةً، هذا الأمر يجب أن تتوقفي عنه تمامًا؛ لأنك بمثل هذا الفعل تدعمين هذا الانجذاب الوجداني السلبي.

اتخذي هذه الخطوات، وأنا متأكد أن حديثك مع والدتك سوف يكون فيه خير كثيرا جدًّا بالنسبة لك.

بالنسبة لموضوع العلاجات الدوائية: نعم الدواء يفيد في حالة المخاوف؛ لأن الأصل فيما يخص أسباب الحالات النفسية أيًّا كانت، تكون هنالك عوامل بيولوجية، وتكون هنالك عوامل نفسية، وعوامل اجتماعية، وعوامل متعلقة بالشخصية، مثلاً: يمكن أن يكون إنسان في نفس وضعك هذا ولكنه لا يتأثر مثل هذا التأثر، ما هو التفسير لذلك؟ التفسير لذلك أن لديك استعدادًا بيولوجيًا، فطريًا، غريزيًا ليحدث لك ما قد حدث، ولم يحدث للشخص الثاني، بالرغم من أن ظروفه الحياتية مطابقة لك تمامًا، ولكن ليس عنده التهيؤ البيولوجي، أو ما نسميه بالعوامل المرسبة، والتهيؤات البيولوجية تعتمد كثيرًا على كيمياء الدماغ، وعلى التركيبة الجينية للإنسان، لذا فالأدوية لها فائدة، وقطعًا القلق والتوتر يعتمد أيضًا على مسارات كيميائية داخل دماغ الإنسان.

الدواء يفيد من خلال هذه الآليات، لكن أن تبني قناعات شخصية فهذا أيضًا مهم جدًّا، والدواء قطعًا سوف يُمهد لك التعامل مع الأمر بعقلانية أكثر ومنطقية؛ لأن الدواء يخفف القلق، ويخفف التوتر، وهذا في حد ذاته يجعلك أكثر تحضيرًا وقابليةً لأن تنظري للأمور بصورة مخالفة.

إذن اذهبي وقابلي الطبيب النفسي، وأنا متأكد أن أيًا من الأدوية المضادة للمخاوف والوساوس والقلق سوف تساعدك كثيرًا.

باركَ الله فيك، وجزاك الله خيرًا، ونسأل الله لك الشفاء والعافية والتوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك
  • السعودية مرام

    اناحزينه دوما ولا ادري لماذا

  • مصر محمد السعيد

    اقراى كتاب صيد الخاطر لابن الجوزى يقول فيه(يكدر الله عليك الدنيا واهلها حتى لا يتعلق قلبك الا به فالله غار على قلبك حين وجد به كل هذا الحب لامك كما غار على قلب النبى لما راه يحب عائشه فكدرها عليه بمن اتهمها فى عرضها حتى يصفو قلب نبيه له
    اقراى كتاب الفوائد لابن القيم
    اقراى موضوع اسمه (التعلق بغير الله)
    ومن الناس من ....يحبونهم كحب الله

  • الجزائر خليدة

    كأنك تحكين قصة حياتي لكن للأسف مخاوفي لم تكن عبث فبعد معاناة من الخوف الشديد على والدتي وتعليق الشديد بها مرضت و ماتت والله كانت رسالة لقروب أجل أمي رحمها الله كنت خائفة ان أفقدها ففقدتها وكنت شديدة القرب منها في أيامها الاخيرة دون علم مني أن السبب هو أنها سترحل أطال الله في عمر والدتك

  • العراق نور الهدى

    حفظ الله لك امك انا ايظا اعاني من نفس المشكلة اخاف جدا من فقدان امي واصبحت حياتي جحيم لاني احبها ولااستطيع فراقها ربي احفظ امي وجميع الامهات

  • العراق Rusul

    للأسف عندي نفس المخاوف ع اهلي ما اريد بيوم اسمع شي مو زين ع اي احد من اهلي و أتمنى و كوّن يا رب يكون يومي قبل يومهم و يا رب تستجاب هذه الدعوة لان صدگ تعبانه و بس ابچي من اگعد و حدي او اشوف اهلي گاعدين لو يسولفون و يضحكون لو مضايقين تدمع عيوني و تخنگني العبرة و الله العظيم مرات أتمنى لو اهلي مو الحقيقين لو أصلاً ما جئت لهذه الدنيا .. يا ربي طول عمر اهلي و انطيهم الصحه و العافيه و احفظ اهلي و جميع أهالي العالم

  • الأردن امي حياتي

    والله نفس مشكلتي و انا ايضاً اصبحت حياتي جحيم من شده خوفي على أمي و خسرت علاقتي باخوتي لانني دائماً اتهمهم بالتقصير ناحيتها،، اللهم ارزقنا راحه البال و أطل عمر امي حياتي

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً